بقلم: حسن ابراهيم دحلان
أي جلال هذا الذي يصاحب ذكرى رحيله! وأي نفحات تلك التي تعطر الأجواء في هذا الشهر المبارك عندما يبرز نجمه!
دأبت في هذا الشهر الكريم أن ألجأ إلى القرآن الكريم وأنهلُ من محكم آياته، أتدبر منها معين الإيمان ولذة العبادة، لكنني بدون سابق إنذار أجدني على غير عادتي أتسمر أمام حضوره الغائب وأتذكر بيتا من قصيدة أبن الرومي حينما قال :
طواه الثرى عني فأضحى مزاره .. بعيدا على قُرب قريب على بُعدِ
فهو بالفعل يتوسد ثرى مقابر المعلاه القريبة منا مكاناً ويبتعد عنا بروحه الطاهره، لكنه قريبا وسيظل كذلك بسيرته العطرة وبصماته الخالدة ونهجه القويم.
وأحاول مستميتاً أن أستعير بلاغة القول التي لا أجيدها، وسحر البيان الذي قلما أغوص فيه .. كل ذلك عندما تمر من أمامي ذكرى رحيل الشيخ صالح كامل – رحمه الله – وسط نفحات هذا الشهر الفضيل وأيامه المباركة التي شهدت معه فيها أجمل ذكرياته وأنبل مواقفه.
لقد أسس الشيخ صالح كامل مدرسة عظيمة في العطاء فهو صاحب مبادئ ثابته في الخير والإعمار والنماء، رسالته الراسخة قائمة على إعطاء كل ذي حقاً حقه، فلسفته في الحياة “عجيبة” وترتكز على إسناد الفضل لأصحابه إذ كان يقول : ” لولا الذين سبقونا لما وصلنا إلى ما نحن فيه”
كان رجُلاً تقياً نقياً يؤمن بآيات الله إيماناً مدهشاً فهو يعلم جيداً أن الإنسان لا يمكن ان يعيش لنفسه فقط، بل لابد وأن يعمل لغيره ويساهم في التنمية المستدامة للمستقبل، ويرى وفق منهجيته العملية “أن الذي يموت وهو يعمل أفضل بكثير من الذي يموت وهو يتعبد” مستشهدا بآيات وأحاديث على كلامه من خلال ثقافته الدينية الواسعه، مصداقا لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم “المؤمن يموت بعرق الجبين”، والمعنى الصحيح في هذا أنه يموت وهو جاهد مجاهد يعمل لآخرته ويعمل لدنياه.
وحينما أسرد مناقب الشيخ صالح كامل الذي عملت معه قرابة الـ ١٢ عاما ، أتذكر أنني لم ألحظ يوماً قد اخطأ على أحد من الذين يعملون معه بل كان أكثر شخص يقدر هؤلاء ويعرف أوقات عملهم ومواعيد راحتهم، وكنت كلما اتصل بأحد الموظفين كان يفاجئني بقوله:” لا تتصل به في هذه الساعة لأنه الآن في راحته فلا تزعجه ودعه إلى راحته وفلان له ظروف خاصة وفلان ذهب ليحضر أبناءه من المدرسة” ليضرب بذلك أروع الأمثلة في مراعاة الظروف النفسيه والاجتماعية لكل من يعمل معه.
ويرسم شهبندر التُجار مفهومه الواقعي للنجاح “بأنه يكمن في إعمار البلاد وتأمين فرص معيشيه للعباد ” وقد استطاع خلال سنوات عمله الطويلة أن يُترجم تلك المعادلة عبر عشرات المشاريع التجارية التي أسسها وشارك فيها داخل المملكة وخارجها، بالإضافة إلى عشرات الأعمال الخيرية الأخرى التي يعرفها القاصي والداني، فهو رجل تشكلت بداخله كل معاني الإنسانية وتجسدت في شخصية فذة تجمع كافة الصفات والسمات الحميدة في مجموعة إنسان ..
وبحكم قربي منه يرحمه الله كان دوما يردد “أتمني أن ألقى ربي وأنا أعمل للتنمية”، وكانت فلسفته دائما أن العبد العامل له أجر عند الله كبير، نظير منفعته للناس، وكان دائما ما يحث على اغتنام الأوقات فقد كان يؤمن بأن الوقت من ذهب فقلما وجدته يضيع وقته هباءً فقد كان حريصاً كل الحرص على العمل وكيفية ابتكار أفكار تنموية جديدة وقبل وفاته – رحمه الله – بأقل من ٢٤ ساعة كنت في حضرته، وكان يتحدث معي عن “كورونا”، والدروس المستفادة من هذه الجائحة، وكيف من الممكن تحويل المحنة فيها إلى منحه.
وبما أننا في هذا الشهر المبارك، فقد قال لي أنه منذ صغره إعتاد أن يقضي ليلة الـ ٢٧ من رمضان في مسجد الحبيب المصطفى صل الله عليه وسلم في المدينة المنورة، أو في الحرم المكي الشريف في مكة المكرمة، وأول مرة منذ سنين يقضي فيها العشره الاخيره من رمضان في مدينة جدة نتيجة للحظر الكلي بسبب الجائحة، لكنه ختم حديثه بالقول : ” الله في كل مكان.. وربنا كريم”
ولا أخفي سراً أن الشيخ صالح كامل ذلك الإنسان المتواضع قد غرس في كل من يعمل معه حب التواضع فلم أكن بمنأى عن تلقائيته البسيطة، فكنت منخرطاً معه قريباً منه متطلعاً إلى ما يقوم به أو يفعله وما ينظر إليه وما ينفذه وما يحذر منه وما يدعو إليه ؟؟ فلم أر في حياتي أكثر منه تواضعاً كان رجلاً يتنفس تواضعاً مع الصغير قبل الكبير حريصاً على حقوق الغير فقد عشت معه عشرات المواقف .
واستطيع القول بأنه كان بالنسبة لي الإنسان والأب والمعلم الذي كان يحمل قلبا كبيرا وسليماً يسع الحياه والأحياء، كما كان يحمل عقلا رائدا، قل أن تجد له نظير بين رجال الأعمال في الوطن العربي عطفا على أنه يُعدُ رائد في الإعلام وساهم مساهمة فاعله في تطوره ، وقدم عطاءاً كبيرا في تطور التجارة، والاستثمار، والمسؤولية الاجتماعية. بالإضافة إلى ريادته في مجال الاقتصاد الإسلامي والمصرفية الإسلامية، وكان من القلائل في العالم الذين أسسوا لهما على أسس المقاصد والآليات والمآلات إذ كان – يرحمه الله – فيلسوفًا اقتصادياً إسلامياً، والمتتبع لمسيرته يجد نفسه أمام نمط للفيلسوف الاقتصادي، الذي يتمتع بنهج في الحياه قلما يتوافر في رجال أعمال جيله، حيث كان لا يتوقف عن السعي في خوض غمار مجالات جديدة غير مطروقة من قبل، وكان يقول “بعد أن أستقر في مجال معين لا أرتاح، حتى وأبحث عن مجال غيره يحتاج إلى إشباع لأستثمر فيه”
هكذا تعلمنا من شيخنا وقدوتنا صالح كامل – يرحمه الله – أصول العمل والإنسانية وكيفية تناغمها مع بعضها البعض، وربما بقدر ما تعلمنا وأثرت فينا مناقبه، جاء تألمنا على فراقه.. ويلوح في خاطري بيت الشاعر مصطفى قاسم :
ما مات من غرس العلوم بروضه
وسقتْ زهورَ رياضه القطراتُ
وعزاءنا أنه لقى وجه ربه كما كان يريد دوما وهو يعمل في إعمار الأرض ومصليا في مسجده مع أبنائه في شهر الخير والرحمة والبركات، مخلداً لنا أرثً اجتماعيا وأخلاقيا واقتصاديا، وسيرة عطرة ستظل ملازمة لنا ما بقينا في هذه الحياة، فهو من كان يردد دوما بأن حال الإنسان كله خير، إذا كان سليمًا معافى فيجب عليه أن يحمد الله، وأن كان مبتلى فعليه الصبر وسيكون ثوابه الأجر من الله، وإذا مات لقى ربه الكريم وهو في رضى وقناعة بإيمانه التام بقضاء الله وقدره.
والآن بعد غادرنا إلى رحمة الله ورضوانه، أثلج صدري ما فعله العزيزان على قلبي عبد الله ومحيي وأخوتهم من أبنائه وبناته بتأسيس مؤسسة صالح كامل الخيرية، لتكون بمثابة النبع الذي نستلهم منها جميع الأعمال الخيرية التي كان يفعلها طوال حياته آملاً في ديمومتها إلى الأبد، لتبقى إنموذجا يؤرخ لمسيرة العطاء التي رسخها في حياته لتستمر ينابيع تنضح بالخير والعطاء له بعد وفاته، ولتكون واحدة من المؤسسات الخيرية في أمتنا العربية التي تحمل اسماً يعشقه البسطاء قبل المقتدرين والصغار قبل الكبار .
رحم الله شيخنا الفاضل صالح كامل وأسكنه الله فسيح جناته ودامت سيرته العطرة المرافقه دائماً للشهر الكريم، والله نسأل أن يعيد علينا وعلى الأمة الإسلامية هذا الشهر الكريم باليمن والخير والبركات وأن يرحم أمواتنا وأموات المسلمين.