بقلم جيفري كمب
كاتب وصحفي اميركي
تُعد المدن الكبيرة حول العالم من بين أكبر ضحايا وباء «كوفيد-19». ذلك أن المكاتب أُغلقت، وملايين الموظفين الذين يقومون برحلات مكوكية بين البيت ومكان العمل صاروا يشتغلون من مكان السكن. وبالنسبة للمدن التي تعتمد على السياحة كمورد دخل مهم، كانت التأثيرات أشد وأكبر. ذلك أن الكثير من الخدمات التي توفرها المدن عرفت انخفاضاً دراماتيكياً في الزبائن. وهذا يشمل أنظمة النقل الجماعي، والفنادق، والمطاعم، والمقاهي، والمسارح، والمتاحف، والحانات، والنوادي الليلية، والحدائق العامة، والملاعب الرياضية. وتُعد الكلفة البشرية والمالية لهذه المنشآت كبيرة جداً. ذلك أن العديد من عمال الخدمات فقدوا وظائفهم. وبعد عام من الإغلاقات، ما زال من المبكر جداً تقييم التأثيرات طويلة المدى لهذه الاضطرابات على الميزانيات المحلية والولائية والفدرالية. ولئن كانت الخسائر كارثية على المدى القصير، فإنه يمكن أن تكون هناك تغيرات جوهرية إلى الأحسن على المدى الطويل.
ومن نتائج الإغلاق هناك الحسابات الجديدة للشركات الكبرى التي كانت تهيّء لموظفيها مجمعات مكاتب كبيرة في وسط المدن، إذ تشير الدلائل الأولى إلى أنه حتى في حال احتواء الوباء، فإن العودة إلى الطريقة القديمة للقيام بالأعمال قد تكون مستبعدة. ذلك أن الموظفين تعودوا على العمل من البيت من دون مشقة التنقل، والدلائل تشير إلى أن جودة عملهم تظل عالية، وأن الشركات لا ترى سبباً لإعادة جداول العمل السابقة. صحيح أنه ستكون هناك دائماً مناسبات سيكون فيها الالتقاء في المكتب ضرورياً ولو من أجل بناء الوفاء والزمالة بين الموظفين. وفضلاً عن ذلك، فإن زيارةً إلى المدينة أو زيارتين في الأسبوع لديهما فوائد أخرى مثل الاستمتاع بالمرافق الرائعة التي توفرها معظم المدن لزوارها.
والواقع أن هذا النوع من الترتيبات قد ينجح بالنسبة للشركات والموظفين، لكنه ينطوي على تداعيات وخيمة بالنسبة لشركات العقارات التجارية التي وجدت معدلات إشغالها تهوي خلال الوباء، والتي تخشى الآن أن يرغب العديد من أهم زبائنها في تقليص مساحات مكاتبهم. ونتيجة لذلك، فإن مداخيل الإيجارات ستنخفض مثلما ستنخفض تكاليف الإيجار في محاولة لإشغال المساحات الفارغة. لكن السؤال الذي لا تُعرَف إجابته هو ما إن كان رخص مساحات المكاتب في المدن سيجذب زبائن جدداً من خلفيات أكثر تنوعاً، مما يؤدي بالتالي إلى إعادة توازن تقليدي أكثر إلى ديموغرافية المدن الكبرى. فعلى مر السنين، تحوّلت مدن مثل لندن ونيويورك وباريس بشكل متزايد إلى سكن لأغنى الأغنياء والفقراء جداً مع أقلية قليلة من الأشخاص متوسطي الدخل القادرين على تحمل كلفة حياة المدينة.
المتفائلون يعتقدون أن إعادة التوازن الديموغرافي إلى المدن، إلى جانب استثمارات أكبر في المساحات الخضراء، وممرات الدراجات، والحافلات الكهربائية، وعربات الترام، مع فرض قيود أكبر على السيارات الخاصة والشاحنات الثقيلة.. كل ذلك يمكن أن يحسّن جودة الهواء بشكل كبير، وخاصة في المدن الكبرى في أفريقيا وآسيا التي شهدت توسعاً عمرانياً كبيراً وتضاعف حجمها، لتعرف مستويات مروعة من التلوث. إن جميع هذه الأفكار ستكلّف الكثير من المال، وهذا هو أصعب تحدٍّ ينبغي التغلب عليه. فالمدن تعتمد على قاعدة ضريبية قوية من أجل تغطية نفقات الخدمات الأساسية، وخاصة أنظمة النقل، والمنشآت الصحية، والمدارس، وقوات الشرطة. وإذا لم تكن الحكومات الفدرالية مستعدة لتوفير قروض ومنح للمدن من أجل التعافي من وباء «كوفيد-19»، مع دعم الخدمات، فإن الآمال في مستقبل أكثر إشراقاً لن تتحقق.
وإلى أن تتم السيطرة على الوباء ومحاصرته على المستوى العالمي، فإن السياحة ستظل بطيئة في العودة إلى المستويات السابقة، وهذا ستكون له تداعيات سلبية بالنسبة لقطاع الطيران الذي سيعاني هو أيضاً من تراجع عدد زبائن الأعمال الذين سيفضّلون عقد اجتماعات عن بعد عبر منصة «زوم» على الطيران لعدة ساعات في رحلات جوية مرهقة، وخاصة إذا كانت بعض الوجهات من البلدان التي تفرض على زوارها إجراءات حجر منزلي صارمة بعد السفر.
ومهما يكن، فالمؤكد هو أن بيئة عالمية جديدة ستخرج من رحم أزمة «كوفيد-19» الطويلة. وإذا كان من نتائج ذلك تعاون أكبر بين القوى العالمية المهمة من أجل تجنب جائحة أخرى مماثلة مستقبلاً، فلا شك أن معظم العالم سيكون في حال أفضل. أما إذا كانت القومية المتطرفة هي نتيجة الإغلاق والخلافات التي لا نهاية لها حول اللقاحات، فلا شك أن ذلك سيكون مدعاة للقلق والتشاؤم.