بقلم خلف أحمد الحبتور
من أبرز المحطات في روزنامتي السنوية العطلة التي أمضيها بمنزلي في الريف الإنجليزي، محاطاً بمناظر خلّابة ومهيبة للأراضي الخضراء الرائعة التي نشأتُ على حبها. ففي ذلك المكان أشحن طاقتي من جديد لمواجهة مختلف التحديات التي تعترض طريقي. لكن الأمر قد اختلف هذا العام.
في الحقيقة، يقلقني كثيراً المسار الانحداري الذي يبدو أن أوروبا وبريطانيا وأميركا تنزلق إليه على مختلف المستويات تقريباً. فالعديد من الأشخاص الذين ألتقيهم يبدون خشيتهم مما يخبّئه المستقبل، أو يعبّرون عن غضبهم من القيود التي فُرِضت عليهم ولم تجلب لهم أي منافع تُذكَر حتى تاريخه.
لقد ضاق الناس ذرعاً في هذه البلدان بإغلاق حدودهم ومطاراتهم وموانئهم أمام الأعمال والسياحة. وعمدت شركات الطيران إلى تسريح عشرات آلاف الموظفين، ولا شك في أن العديد من هذه الشركات سيُصاب بالإفلاس.
عالمنا قريةٌ كونية مترابطة. ولذلك فإن تحويل تلك البلدان إلى قلاع محصّنة يقود إلى الخراب. أمّا الحدود المفتوحة فتنقذ الاقتصادات من الانهيار الذي يمكن أن تتسبب فيه البطالة الجماعية، ويكفي أن يلتزم المسافرون بقواعد السلامة، وأن يُقدّموا فحصاً أجروه حديثاً يثبت عدم إصابتهم بالفيروس.
وقد سئم هؤلاء الناس أيضاً من الحجر الإلزامي، على غرار الحجر الذي فُرِض أخيراً على البريطانيين العائدين من السفر، مع دخول القرار حيّز التنفيذ بعد ساعات فقط من اعتماده. فقد أصيب الأشخاص الذين كانوا في عطلة بالهلع وبدأوا يتهافتون للعودة إلى ديارهم قبل انقضاء المهلة الزمنية. لقد حان الوقت لكي تتحرك الدول الغربية لإنقاذ صناعة السفر من العناية المركزة.
صحيح أن فيروس كورونا مثير للخوف والقلق، لكن الإغلاق المستمر الذي تفرضه الدول، برأيي أكثر ضرراً من تلك الناجمة عن الوباء نفسه. لقد أعلنت منظمة الصحة العالمية أن الوباء سيبقى معنا لعامَين إضافيين على الأقل، في حين تعاني بلدانٌ كثيرة موجة ثانية من الوباء.
تُسجَّل زيادة في حالات الاكتئاب والقلق والإدمان والانتحار.
وعندما تُستنفَد الأموال المخصصة لخطط التحفيز دعماً للشركات الصغيرة والعاطلين عن العمل، قد يصبح مئات ملايين الأشخاص من دون عمل، وبالتالي من دون مصدر للدخل. وعلى المستوى العالمي، يواجه نحو 2.5 مليار شخص خطر البطالة إذا تواصل خنق هذه الاقتصادات عن عمد.
وعندما لا يعود لدى الأشخاص ما يقتاتون به، يتملّكهم اليأس ويتحوّلون نحو السرقة والخطف والاتجار في النساء والأطفال أو في الأعضاء البشرية كي يتمكنوا من تأمين قوتهم اليومي. سيتسبب سوء إدارة الوباء وتسييسه بمحنة أكبر من تلك التي يتسبب فيها الوباء نفسه. هذا ما أسمّيه موتاً بطيئاً.
نشهد احتجاجات في العديد من البلدان في جميع أنحاء العالم على قيود وحالات الإغلاق المتعلقة بفيروس كورونا، من بينها فرنسا وإيطاليا وإيرلندا وبولندا وروسيا والمجر. إن صبر الناس ينفد.
لقد فرضت الحكومتان الأميركية والبريطانية حظراً مؤقتاً على الإخلاءات، لكن المستأجرين يتخوفون من أن يجدوا أنفسهم في الشارع مع مقتنياتهم بعد رفع هذا الحظر وعجزهم عن تسديد المتأخّرات المتراكمة. ويقول أولياء أمور يعيلون أولاداً صغاراً إنهم يشعرون بخوف شديد.
لقد فاقت حصيلة الوفيات في المملكة المتحدة 105 آلاف، ولذلك ليس لدى الحكومة البريطانية ما تتباهى به. فالإغلاق المشوِّش والفاتر الذي فُرِض متأخراً إلى جانب عدم الالتزام بقواعد التباعد الاجتماعي لم يؤدِّيا إلى تفشّي الفيروس وحسب بل تسببا أيضاً في تدمير الاقتصاد.
صحيح أن جميع البلدان تقريباً لم تستطع أن تنجو من الفيروس، لكن يبدو أن مواطني الدول المتقدّمة يتكبدون المعاناة الأكبر لأن كثراً ممن يعيشون في الديمقراطيات الغربية يرفضون التقيّد بقواعد التباعد الاجتماعي، فيما يستهجنون وضع الكمامات ويعتبرونه انتهاكاً لحرياتهم الشخصية.
توصي منظمة الصحة العالمية بأن علينا التعايش مع الفيروس في الوقت الراهن، وهذا يعني أنه ينبغي علينا أن نتأقلم مع الظروف، لا أن نعزل أنفسنا ونستسلم لليأس، فيما نتساءل من أين سنحصل على وجبتنا التالية؟
إذا واصلت دول «العالم الأول» تطبيق سياساتهما المضرّة، فستكون التداعيات خطرة جداً مثلما حدث بعد الحرب العالمية الثانية. وإذا استمرت الأمور على هذا المنوال، ففي غضون ستة أشهر ستخوض بعض بلدان «العالم الأول» معركة قاسية لتجنّب الإفلاس، ناهيك عن خطر مواجهة تململ شعبي واسع النطاق. إنهم بحاجة إلى وضع خطط ثابتة والتصميم على تعزيزها.
لقد تمكّنت الصين التي كانت بؤرة لانطلاق وباء «كوفيد-19» من محاربة الفيروس والحفاظ على توازنها الاقتصادي، على الرغم من أنها تضم العدد الأكبر من السكان بين دول العالم. يتعيّن على الديمقراطيات الغربية أن تفتح حدودها وتسمح لمواطنيها باستئناف حياتهم العادية مع تطبيق إجراءات مشدّدة للحفاظ على السلامة العامة. إذا لم تتحرك هذه الدول وتنقذ اقتصاداتها في اللحظة الأخيرة، فستكون التداعيات وخيمة جداً.